يبدو أنّ بوّابات “الرُسوم” تحمل لنا الكثير والكثير؛ منها المعتاد، ومنها المثير، وأصبحت الحلول الاقتصادية لمشكلات العالم وتناحرهم تمرّ عبر بوّابات الرسوم
وعن رسوم التعريفات الجمركية “الترامبية” أتوقّف معكم قليلًا في نقاط، على النحو التالي
أوّلًا▪️▪️
يحاول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إعادة صياغة منظومة الاقتصاد العالمي بشكل يُجَمِّل وجه الرأسمالية الأمريكية، ويُوجّه رسالة لمنافسيه الدوليين والغزاة للأسواق الأمريكية بعنوان: إنّ “الحظيرة” أصبح لها حارس، والوكالة أصبح لها بوّاب يُفَتِّشُ المارّة، والمرور لن يكون مرور الكرام، لا سيما أنّ حجم ما تستورده أمريكا سنويًّا بلغ حدود ٣.٢ تريليون دولار، وفي تصوّري أنّه يتطلّع لهذا الرقم ويتغافل عن رقم “الصادرات الأمريكية” البالغ ٢ تريليون دولار، التي تأتي في المرتبة الثانية عالميًّا بعد الصادرات الصينية المتربّعة على العرش منذ ٢٠١٢
ثانيًا▪️▪️
ربما هذه الرسالة، إذا أخذنا منها الجانب الإيجابي، والتي يجب أن ينتبه إليها معظم دول العالم المتشحّة بالرأسمالية، فإنّ أرباب الرأسمالية الآن يفرضون رسومًا وتعريفات على سلع ومنتجات. وهذه رسالة لكل دول العالم التي تودّ أن تعي متطلبات المرحلة، وملخّصها أنّ الاقتصاد القادم هو اقتصاد ضوابط، واقتصاد إنتاجي لسلع ومنتجات حقيقية، وتحقيق نسب ومعدلات الاكتفاء الذاتي لشعبك سوف يحمي الشعوب من هذه الأمواج المتصارعة العاتية. وإنّ رأسمالية الأوراق المالية المتوحشة والتقييمات الكاذبة في طريقها للتصحيح المؤقّت، لأنّ العالم كله مدين، ومن أكبر الدول “المدينة” أمريكا، وأنّ الكل لابد أن يكون “حقيقيًّا” وإلّا فالقادم صعب
ثالثًا▪️▪️
الدول الصناعية الكبرى داخل مجموعة السبع ومجموعة العشرين ودول الاتحاد الأوروبي والمعسكر الشرقي واليابان سيكون لها لغة ردّ وحوار مفتوح داخل هذه الجولة، وإذا أقام ترامب بوّابات، فسوف يقيمون عليه حوائط سدّ، ربما ستجعله يعيد النظر ألف مرة في هذه القرارات التي يعتبرها عنترية. وأتصوّر أنّ استقالة “إيلون ماسك” جاءت نتيجة خلاف فقهي اقتصادي وتعارض الرؤى في تحليل المصالح الأمريكية حول العالم بلغة رجال الأعمال بعيدًا عن الساسة.
ولديّ يقين أنّ هذه الرسوم الترامبية سيكون لها أثر سلبي على الأسواق والشركات الأجنبية الأمريكية الأصل، إلّا القلّة القليلة التي تمتلك القدرات الصناعية التي لا مثيل لها وتمتلك “Know How”، وسيكون باقي دول العالم في حاجة لها مرغمًا. أمّا ما دون ذلك، فهناك من أنظمة العالم المتقدّم القادر على الردّ بحنكة وخبرة على هذه القرارات، والردّ سيكون مؤلمًا للشعب الأمريكي الذي سيدفع فواتير قرارات أتصوّر أنّها غير مدروسة بدقّة
رابعًا▪️▪️
لا نودّ أن نكون متسرّعين، فالبعض الذي يتصوّر أنّ هذه فرصة لمصر أو السعودية أو الكويت أو الإمارات، لأنهم من أقلّ دول العالم في نسبة الرسوم الترامبية، وعلى الرغم من أنّ أدوات الجذب للاستثمار متاحة، وأنّ الشركات التي يمكن أن تنقل نشاطها لمصر قد تخاطب السوق الأمريكي والأفريقي معًا بحجم قد يصل إلى ١.٥ تريليون دولار سنويًّا، أو يمكن نقل سلاسل الإمداد، إلّا أنّني أودّ أن أؤكّد أنّ دول العالم الصناعية الكبرى ليست دولًا سهلة الحركة كما يتخيّل البعض
الاستثمار الدولي البيني الصناعي القوي، الذي يملك أبحاثًا ومتطور ويتطوّر، لا ينتقل بهذه السهولة، لأنّ مثل هذه القرارات الترامبية قد تكون مؤقّتة، ليست دستورًا أو مواد سماوية، فلن يتحرّك الاستثمار العالمي على قرارات رجلٍ يتحدّث كذبًا صباحًا ويَـلْحَسُ حديثه مساءً. كما أنّ حركة الاستثمار الصناعي والإنتاجي دومًا تُسَيَّس بين الكيانات العظمى، ولن تكون سهلة إلّا بعد الوصول لتعدّدية أقطاب العالم ويعود العالم لهدوئه
ولكن، كلّ ما علينا أن نراعي ونأخذ في الاعتبار التنافسيّة الإقليمية ومناخ الاستثمار بين مصر ودول الخليج، حتّى وإن بزغت شمس استثمار واحد متحرّك يبحث عن وطن جديد، يكون لمصر فيه نصيب، لأنّ الخليج وتحديدًا السعودية أصبحت لاعبًا أساسيًّا في جذب الاستثمارات الأجنبية بأدوات حديثة ومناخ أكثر تقدّمًا، ولديها ميزان مدفوعات قوي مدعوم بالنفط مع دول العالم شرقًا وغربًا
خامسًا وأخيرًا▪️▪️
إذا كان لنا وقفة، وقولًا سديدًا، وحوارًا واضحًا في هذا الشأن، فدعونا نبتعد عن النقد العارم والجارف والأهوج للكلمات والرسوم الترامبية. لا نريد أن نُشَخْصِن المشهد مع شخصية جدلية تتسيّد المشهد الدولي، ويتخيّل كل محلّل أو ناقد أو مؤثّر “سوشيالجي” فينا أنّ “ترامبوكس” سيجلس ليسمعه، أو سوف يغضب من مقاله أو من البوست، وهو يسمع الدرس الأدبي! هذا كلام لا يُثْمِن ولا يُغني من جوع
دعونا نعود إلى ما بدأناه، ونعود إلى قراءة مشهدنا الداخلي – اقتصاد الإنتاج – ونكرّر أنّنا نريد أن نهرع إلى امتلاك التكنولوجيا ذاتيًّا عبر البحث العلمي والإنفاق الاستثماري الحكومي والخاص على امتلاك القدرات وKnow How لمنتجات وسلع مطلوبة حول العالم
الرّد على الرسوم الترامبية هو افتتاح كلّ يوم مصنع أو اثنين أو ثلاثة، لتحجز مكانًا في سباق التنافسية العالمية الاقتصادية التي يُعاد فيها هندسة الاقتصاد العالمي وتشريحه جغرافيًّا
كيف تستفيد مصر من دراسة وتحليل وترقّب لمعارك الكبار في الاقتصاد والصناعة، حتّى تكون خلال ٣ – ٥ سنوات مرتدية وجهًا اقتصاديًّا جديدًا، لديها منتجاتها المحليّة، منفتحة على استيراد احتياجاتها بشكل علمي مُمنهج ودقيق ومحكم للغاية، مُهندسة ميزان مدفوعاتها من خلال علاقات تجارية دولية جديدة، مستفيدة من الصدع الحادث من جدول رسوم ترامبية قد تحمل حلولًا واضحة لعلاقات تجارية جديدة ومستقبل أفضل للدول التي تريد أن تستفيد من تجارب ونجاحات وإخفاقات وصراعات الغير
أخيرًا، سؤال يطرح نفسه
ماذا لو؟؟
أنّ كل الدول التي فُرض عليها رسوم جمركية ١٠٪ فما فوق
تُعلن غدًا اتفاقية تجارة حرّة جديدة “صفرية” جمارك، وتُعلن فرض رسوم جمركية ٥٠٪ على الواردات الأمريكية!!! مجرّد تصوّر